تكريـم الشـاعـر

كانت القاعة الزرقاء في المكتبة الوطنية مكتظة عن آخرها حين دخلتها في الساعة الثالثة لحضور الحفل المقام في الذكرى الخامسة لاغتيال الشاعر كامل الحر. لم أجد مكانا في المقاعد المنجدة الفاخرة ولا في الكراسي الجلدية المضافة. وقفت مع مجموعة من الصحفيين بجانب الجدار نتابع الحفل عن كثب. سبقتني حفيظة مصورة الجريدة إلى هناك وبدأت بالتقاط الصور. أنيقة كعادتها بثيابها التي تشبه ثياب الباكستانيين، سروال طويل، وفوقه ثوب قصير باللون الأزرق السماوي وغطاء للرأس من نفس النوع. حجاب من النوع العصري. تطوعت بالحضور في يوم عطلتها لأن بيتها قريب من المكتبة.

زوجة الشاعر فائقة الجمال تجلس في الصف الأمامي بثوب أسود وشال شفاف رمادي، يشرق من خلالهما وجهها من دون زينة كوردة جورية ندية يحيط بها في الصفوف الأولى والوسطى والأخيرة جمهور غير عادي من المسؤولين السامين الحاليين والسابقين من وزراء وأمناء عامين ونواب ومديرين عامين وسفراء ببدلاتهم الأنيقة السوداء والرمادية. أما النساء الحاضرات فمعدودات على الأصابع لأن اقتحام المرأة لمناصب المسؤولية ما يزال في بدايته. همس في أذني أحد زملائي من القناة الإذاعية الأولى : "لم يترك المرحوم ثروة سوى امرأته الجميلة التي فاز بالزواج منها أعز أصدقائه، ووافق على حضورها الحفل، ولكنه اعتذر عن الحضور منعا للإحراج".

سألته عن أقرباء الشاعر فأجاب : "قيل لنا قبل مجيئك بأن أباه وأمه اعتذرا عن الحضور لأسباب صحية، وأظن أن الدعوة وجهت إليهما دون التكفل ببطاقات السفر وهما يعيشان في قرية نائية في ولاية ورقلة".

أجلت نظري بين الحضور فلم أجد فيهم أحدا من الأدباء والفنانين المهتمين بإحياء أدب المرحوم وشعره. كان على المنصة عريف الحفل، وعلى يساره أحد المنظمين، بينما تعاقب على الكرسي الأيمن كوكبة من كبار المسؤولين يدلون بشهاداتهم عن الشاعر، ويكاد كل منهم يتحدث عن سيرته الذاتية وأمجاده الشخصية زاعما أنه يتحدث عن مآثر الفقيد فلا يذكر منها إلا ما له علاقة بإنجازاته ومآثره هو قبل مآثر الفقيد، وكانت التصفيقات الحارة تتبع كل مقطع وأحيانا كل جملة يتفوه بها أحدهم. وقوفه ضد الإرهاب وعملية اغتياله وردتا في جملة نطق بها عريف الحفل ومرت مرور الكرام.

لم تنقطع تكتكات آلات التصوير والتماع أضوائها سواء على المنصة أم في القاعة، مضيفة بعداً آخر إلى ضوء النهار وأضواء الكهرباء المتلألئة. مصورو القنوات الوطنية والعربية والأجنبية ومصورو الصحف والمحترفون الخواص والهواة يتحركون بصعوبة لنقل صور الحفل.

جاء دور الشعر وأعلن عريف الحفل عن قصيدة للشاعر الكبير كريم عرفان. مشى الشاعر إلى المنصة بتثاقل يجر بصعوبة قامته القصيرة ورأسه الضخم الذّي زحف الصلع عليه فلم يترك إلاّ شعيرات قليلة في منتصفه. كانت القصيدة عرضاً لهموم الوطن ودعوة إلى الحب والسلام، عدّدَ فيها مآثر الفقيد لا مآثر أصحاب الدولة والمعالي والسعادة الحاضرين ومطلع القصيدة :

وجَمَ الشعرُ حين غبْتَ فغابا            وبذكراكَ  يستعيدُ الخِطابا

 ليبُثَّ الحياةَ والنبضَ فيـنا            وليمحو الأحقادَ والأوْصابا

علـَّهُ يستطيعُ مـدَّ جسور ٍ           بيـننا كيْ  يعيـدَنا أحبابا

 أوَ ليْسَتْ رسالة الشعر حبّاً            وسلاماً لِمَنْ وَعى واستجابا؟

اقتربت من حفيظة ورجوتها أن تلتقط صورا للشاعر لأني أود إجراء لقاء معه. قرأ المقطع الأول والثاني والثالث بلهجة مؤثرة تذيب الصخر، فلم يصفق منهم أحد بالرغم من جماليات الصور والمعاني. وبما أن الشاعر تعود على تجاوب الجمهور معه، فلم يستسغ تجاهل جمهور اليوم. لكن هذا "الجمهور" إذا صح استعمال هذه الكلمة عن عِلـْيةِ القوم والنخبة المصطفاة من السياسيين والإداريين المحنّطين في ألقابهم ومناصبهم وأماكنهم، يبتسمون بقدر، ويهزون رؤوسهم بقدر. تعودوا أن يصفق الناس لهم تمجيدا، وأن يصفق بعضهم لبعض نفاقا، ولم يتعودوا أن يصفقوا إعجابا بأحد أو لأحد. ويبدو أن المنظم ضاق ذرعا بالشعر فهمس في أذن عريف الحفلة الذي اقترب من الشاعر، وقال بصوت مسموع نقله مكبر الصوت للحاضرين: "اختصر من فضلك". ربما أجْبـِرَ المنظمون على إدخال فقرة الشعر لأن المحتفى به كان شاعرا، ولكنهم يريدون اختزالها.

همس في أذني صديقي الصحفي ثانية :

"الشعر في العادة ضروري في كل حفل، كالملح في الطعام، ولكن هؤلاء المدعوين ممنوعون من الملح بحكم المرض والحمية فهم تعودوا على الطعام المَسُّوس".

قرأ الشاعر المقطع الخامس فلم يصفق أحد. قال وهو يستعرض وجوه الحاضرين بغيظ مكتوم حوّله بخفة دمه إلى نكتة : "تصفيقة من فضلكم !"،. بدأت بعض التصفيقات المحتشمة من هنا وهناك، أضاف الشاعر : "إذا سمحتم، سأحدد لكم الأماكن التي تصفقون عندها في المقاطع القادمة".

ضجت القاعة بالضحك، وزال مفعول التحنيط، وتحولت التماثيل المنصوبة على الكراسي إلى جمهور عادي من لحم ودم، ينفعل ويتفاعل ويحس ويتحرك، وتعالت التصفيقات التي تحولت بسرعة إلى هدير دوّى في أرجاء القاعة، قال الشاعر برضى : "هكذا يُسمَعُ الشعر".

ترى مَنْ مِنْ هؤلاء حزين حقا على رحيل كامل الحر ؟ كلهم تحدث عنه بحرارة وحميمية، وأراهن على أن أحدا منهم لم يكترث به في حياته. ليس للشاعر الحي قيمة في نظر السياسيين، ولكن حين يموت يتحول إلى قديس يتحلقون حول جثمانه ليتقرَّبوا به إلى الناس. قالت لي حفيظة وكأنها تقرأ أفكاري : "لو كنت شاعرة لأوصيت ألا يحضر جنازتي وتأبيني أحد من المسؤولين والسياسيين، إلا من أثبت خلال تحمله المسؤولية رعايته للأدب والشعر والفن".

بدأ الناس يخرجون من القاعة إلى البهو لتناول الحلويات والمرطبات التي أعدت بهذه المناسبة بينما وقفت وزميلي صحفي الإذاعة مع الشاعر كريم عرفان، قدمنا أنفسنا إليه وبدأ زميلي يحاوره ويسجل حوارا معه في إحدى زوايا القاعة. استمعت باهتمام إلى الحديث. سأله الصحفي :

أليس عجيبا أن تلقي قصيدة تؤبِّن فيها كامل الحر وتذكر مآثره، وقد كانت بينكما خصومة أدبية، وهجوم متبادل على صفحات الجرائد في أواخر الثمانينات ؟

أجاب الشاعر بهدوء : "الخصومة الأدبية هي خلاف في الرأي وليس في المصالح لذلك لا يمكن أن تتحول إلى عداء ولا تنزع ما يكنه كل منا للآخر من ود واحترام.

س : هل اقتنعت أخيرا برأي كامل الحر في قصيدة النثر ؟

ج : أبدا. لابد في الشعر عندي من عناصر ثلاثة : العاطفة والخيال والوزن فإن نقص منه عنصر أو عنصران فليس بشعر، فالكلام الموزون الخالي من العاطفة والخيال أو من أحدهما نسميه نظما لا شعرا كألفية ابن مالك مثلا. والكلام الذي يخلو من الوزن ويتوفر فيه عنصرا العاطفة والخيال يمكن أن نسميه نثرا شعريا ولكن لا نسميه قصيدة فالقصيدة للشعر وحده. ولا يجوز العبث بالمصطلحات فنسمي الطاولة كرسيا والكرسي طاولة وإلا دخلنا في متاهات. ومع ذلك فكامل الحر كان يدافع عن النثر الجيد الحافل بالصور والمشحون بالعاطفة، ولا يدافع عن كل ما يكتب هذه الأيام. وغلبه البكاء فجأة فقال: "رحمه الله".

نظر إلينا وكأنه عرف أننا نتعجب من حزنه إلى هذا الحد على منافس له في الشعر وخصم في النقد، وقال : حين مات كامل الحر شعرت بأن جزءا مني يموت بموته. الخصم أحيانا يشعرك بوجودك وبأهميتك أكثر من الصديق. كان يخرق جدران الصمت حين ينقد ما أكتبه، وبعد أن ذهب أحاطت بي جدران الصمت من جديد. لقد دخل النقد في غيبوبة بعد موته.

جاء ابنه ليرافقه فطلبت منه موعدا، تردد قليلا ثم ناولني بطاقة فيها عنوان المنزل ورقم الهاتف قائلا : "اتصل بي لاحقا لأعطيك موعدا، ولكن بعد العاشرة صباحا وفي غير وقت القيلولة".

                                             عبد الله خمّار                         

                                          من رواية "حب في قاعة التحرير"                      

                                    الورقة الأولى: أعداء الحب